في قطار إشبيلية




عزيزتي
 
أحيانا اتسائل بعد طول الطريق هل كان ينبغي ان ينتهي مسعانا هنا ؟ بكل هذا الارتباك في انتظار ما لا يحدث و ربما لن؟.. أراوغ الندم أحيانا فأحاول الاقتناع بأن ما مضي لم يكن اختيارا محضا بل كانت تقلبات الحياة و تبدل احوالها هي ما يفرض بإحكام مسارا ما بدا إجباريا.. او لأكن امينا و اقول أن اختيارا خاطئا في البداية كانت كلفته الاستمرار في مستنقع لم املك الشجاعة الكافية او لأقل اليأس الكافي للعودة منه للمربع رقم واحد..أدمت طرق الابواب حتي أدمت يداي فلما بلغت مقام اليأس وقفت بالخارج ادخن غير مبالي.. كان كل شيء قد حدث و تقرر . بقي فقط محاولات التأقلم او الهروب.. بدا السفر دائما حلا مثاليا و مكلفا للوقوف مؤقتا خارج الزمن و الانسلاخ عن السياق الصعب و المتسارع للعمر ..
 
في السفر كنت اترقب المقاعد الخالية في القطارات و المراتب الغير ممهدة في الغرف المشتركة.. اخمن رفقاء السفر و المقام و اتقبل البشر كأحد انواع القضاء و القدر سواء عليه راقني او لم يرق.. في الخلفية دائما قول نجيب محفوظ أن ً الحياة إستقبال و توديع " و حكمة الإمام الخالدة " الدهر يومان يوم لك و يوم عليك "..
أسير بين طرقات القري و مقاهيها اخالط الناس فترتوي عيني بالجمال ثم اصعد علياء ابراجها أراقبهم كإله صغير نقاطا ضئيلة تتحرك لأقدارها..
 
تسوقني اقدامي للسير بخفة مطمئنة في ازقة الاندلس الخالية في اخر الليل بينما شعرت روحي بالقلق و انا اسرع في شوارع بيروت و برلين الممتلئة في الظهيرة و تطاردني ارواحا ما كانت تجري هنا في زمن قريب هربا من نيران الحرب.. فاتذكر قول المعري عن الظلم " إني اخاف يوما ان تلتقوا ".. 
 
التمس الأنس عند البعض فاستشعرهم جدران صلبة و اخرون وحيدون تلاحقني ذكري اعينهم التي إبتغت رفقتي مستغيثة لكن " حاشتني أغراض الحياة عن النظر " فبقوا في الظل ك " فيكتور نفورسكي او توم هانكس في فيلم زا تيرمينال ".. سعداء بالطقوس الصغيرة يضحكون تشبثا بالحياة..
 
إلتقيت ليزا فغمرتني عينيها تنفثان سحرا و قلبا فاض جمالا كحدائق الحمراء و قابلت سيلفيا و القيت مراسي امالي فوجدت عيناها ضحلة و قلبها غلف فتعجبت من إختلاف الأرواح.. حكي البعض حتي استرسل في التفاصيل فتذكرت قول كونديرا ان البشر يبحثون دائما عن الشعور بأن عينا ما تهتم لحياتهم و أذنا تصغي لحكاياتهم لهذا خلق البشر مواقع التواصل محاربة للوحدة ، بينما بدا البعض سدا منيعا.. يسمع و يبتسم في صمت و يحكي ما لن اتذكره..
 
اسير في شوارع لم امشيها من قبل و اعرف ان لن تطرقها خطواتي بعد ذلك فأشعر بألفة ثم تسطع شمس الظهيرة يرافقها السأم..و اكره مدن حد الاختناق ثم التقط في جنباتها مصادفة ما مع شخص اأنس له فأحبها و اقول لنفسي انظر كيف تتبدل القلوب .. أبتغي الوحدة حينا و احيانا لا اطيقها لدقائق شبحا ثقيلا يجثم على الصدر.. أحزن لاختفاء بعض الرفقة دون مقدمات و دون الوصول معهم حد الشبع ( نهر ما بلش حتي الريق) فاعرف أني في فوبيا فقد الأشياء و البشر في السفر قد افتقدتهم للأبد كحجر سقط في نهر..و أدون ارقام البعض الاخر مجاملة اعرف أنها لا تسمن ولا تغني من جوع..
 
يشكو آبيل المهاجرين في مارسيليا و تعصب المجتمع ضد المثليين و أقابل سليمان الباريسي ذو الاصول المغربية في البارات فيخبرني أن روحه قد ارتاحت لدين اجداده الذي لا يعرف عنه الكثير.. يلعن كلاهما نفس البلاد من مواقع متضادة لكني أناصر قضايا في حديث و أهاجمها في اخر بغية الحفاظ على قطبية الحوار و تدفق الحكي.. 
 
تقاسمت مع البعض علب السجائر دون حواجز الكلفة و اخرون إستسخفت نفسي حين إعتذرت لهم عما لا حاجة لالتماس السماح فيه... رأيت إحراج فتاة حين حادثتها عن مشاكل إقليمية قد لا تهم مدينتها الالمانية و استشعرت إصطناع ضحكة فتاة أخري حين تطرقت معها لمنغصات كمنغصات العالم الأول. 
 
واجهت الوقت في أنقي صوره..أستبطئه حينا فأبحث عما يرضي فضولي من حولي و أستعجله احيانا فالعن متسكعي الطرقات.. سرت في مدن علي خطي ترشيحات المواقع الالكترونية استشعر حضرة اماكن علي الطبيعة رايت صورها قبلا فيبدو السفر لا استكشافا بل تكرارا لخطة مسبقة اصلها واحد و اتباعها كثر ..بينما اخرج عن السرب احيانا اخري فاقتفي اثار داليدا و كافكا في عواصمهم ..
يبحث المسافر عن بعض الذكريات و الحكايات التي ستبقي أو العلاقات التي قد تدوم..و الصور التي قد تحوي بهجة غير اصيلة..و لكن يظل السعي هو الطريق لسكون القلب.. 
 
في كل هذا كانت الضآلة او الشعور بأن ما مضي من الزمن لا يتناسب مع ما قد تحقق هو الرفيق الثقيل.. ربما كان هو الشعور الوحيد الذي لا يخففه الزمن..الوقت هنا هو الداء و ليس الدواء..و الحزن منبعه ما لم يحدث و ليس ما حدث.. و ان إكتفيت كحل مؤقت بالاستعاضة عن الحياة بلحظات البهجة علي هامشها كلما استطعت اليها سبيلا!

Comments

Popular Posts