نهايات الحكاوي
عزيزتي ;
مرت خمس سنوات علي تدوينتي الأولي إليك..سنوات خمس تبدل العالم فيهم و تبدلنا و لهت بنا الحياة و سخرت و ربما فعلت ما هو أكثر..في كل هذا كانت محادثاتنا الإلكترونية إكسيرا للحياة و الطريق الأقصر لإلتماس الطمأنينة وسط أنواء الدنيا.. ظل إسمك هو الزر الذي أضغط عليه فتتوقف الوحدة وتنفتح الأبواب علي رحابة المؤانسة..كنت دائما جسرا من نور عبرت به أيامي الأكثر عتمة..
"و بعتنا مع الطير المسافر جواب و كلام يمكن يريحنا ولا يفرحنا "..
أنا هنا الآن ..علي ضفاف ميناء مارسيليا القديم..أسمع إسمي ينطق بلكنة مغربية محببة فأكاد اقول " من الأول و النبي يا ست..من الأول تاني يا حبيبي "..منذ عامين في غرناطة قلت للويزا أن العربي المغترب يسهل تمييزه عن الإسباني من نظرة عينه المختلفة و من إغترابه عن روح المدينة..فضحكت هي وقالت إن العربي يسهل تمييزه من السيجارة بين أصابعه في مدن لا تعرف الدخان...
المدن كالبشر..بعضها يدخل القلب من الوهلة الأولى و نلتمس فيه قبسا من الانس يختصر المسافات و نود لو طال المقام فنرتوي بالجمال ..و بعضها لا نستطيع تحديد مشاعرنا تجاهه..و إن ظل وجود نهر أو بحر بالمدينة كافي لتبديد الوحشة و إيلاف الليالي الوحيدة..المدن المنعزلة كما الأنفس الموجوعة ..هادئة لكن ينبغي الحذر من كونها مصائد مثالية للوحيدين..
بعض المدن علي النقيض لا يقرئنا الأمان ولا يبادلنا المحبة فنتعوذ بالموسيقي هربا لمكان خيالي آخر.. و البعض كما أغنية هبة طوجي " لما بيفضي المسرح " ..صاخب و ذو روح إحتفالية متوهجة..لكن ما أن تدق الساعات " ما بيبقي الا المكنسة مع الكناس..بيلموا صدي الضحكات ..رقص و زقيف الحفلات "..البعض كان صدفة مؤهلة لأن تكون أول الخيط لقصة ملحمية لكنها إقتطعت فجاة لتصير مجرد لحظة حميمية مقتطعة من سياق لم يكتمل..و كلها..كل المدن..كما البشر..تمر في السفر ما بين إستقبال و توديع..
أنا الآن في طريقي إلي زغرب..كان من المفترض أن أكون هنا منذ عام لكن لا احد يعاند اقداره..أصل إليها متأخرا كما وصلت لبعض الحكمة متأخرا.. كانت الخطوة الأولي في سلم الحكمة هي تعريف الاشياء بمسمياتها..تلاعب لغوي واحد قد يضع حياة كاملة في غير سياقها الصحيح..تعلمنا ألا نطلق علي الإشتهاء حنينا..ألا نختزل المحبة في عشق الجمال و كفي..الا يختلط علينا الأمر بين المراوغة و التردد عندما نري أحدهما في البشر ..الا نتمترس خلف المجاز فنطلق علي الخطط الدفاعية الكاملة ترفعا عن الخلافات و المشاكل..الا نهرب من التنقيب داخل الذات و نسميه إيثارا للغير.. ألا نتكاسل عن بناء حياة متماسكة صحيحة فنسمي ذلك بقاء علي مودة قديمة..و اخيرا و قبل كل ذلك..ألا ننكر الخسارة فندعي ان المسكنات الحياتية هي حياة ..
..أكتب إليك لأخبرك أن العاصفة الأخيرة قد مرت في سلام و بعد الطوفان لقينا بدل الصديق الزين ألف صديق..أو لأقل مرت في صخب بعد أن كشفت كم كان البيت يحتاج لإعادة ترتيب من الداخل و كم كانت مفردات حياتي بحاجة للتغيير..كان لا بد لايقاف سيل الخسائر من الإعتراف التام بالهزيمة..لا جدوي للمراوغة و أنت لا تملك ما تفاوض عليه..كما قلتي لي في نهايات العلاقات عند ذبول الوصل لا مجال للموائمات نفسية أو الحلول الوسط لإبقاء نوع من المودة في علاقة ميتة تحايلا علي أعراض الإنسحاب ...هل يلقي أحد السلام كل صباح علي جرحه المندمل ؟..
فقط كان علي أن أبتلع المرارة و الأسئلة الحائرة و أن أمضي في الحياة في إنتظار أيام أفضل..أن أحمل علي كتفي الكثير من المشاعر الملتبسة و أن أتعايش معها حتي تنقضي.. كل إنسحاب يمهد للطريق للسلام النفسي هو مكسب علي المدي الطويل , و إن تطلب ترويضا للنفس حتي نحاذي مقام الرضا و التسليم فانظر لاحوال الدنيا و تدبر..
كنت قد بدأت بالكتابة عما حدث ثم توقفت..توقفت بعد أن تبصرت أن ربما..أقول ربما كنت أكتب عما تمنيت أن يكون و ليس ما قد كان..ربما نعيد تأويل الحكاية لإضافة نبلا ما للهزيمة أو وقعا أخف للألم..
يوما ما قد أحاول الكتابة مرة أخري..عن قصة سيزيفية من فصل واحد متكرر لحياة من الفرار المتواصل قد تقرر مصيرها مسبقا ، و ما تبقي مجرد إستهلاك للوقت لا بد منه في هذة الدنيا ..تذكرين إيكاروس حينما طار بجناحين من الشمع فذابت الأجنحة و سقط ، لكنه ها هنا عاد لتكرار الكرة بذاكرة ممحاة ..أتمني و أنا لا أعرف عن دنياها شيئا أن تكون قد كسرت هي تروس تلك الدائرة..لا أميل للظن أن أحدنا قد جرفته ثمة مشاعر أصيلة تجاه بعضنا البعض..نحن جديرون تماما بأدوار الأغراب لا يعني كلانا شأن الآخر و إن خدعني ظني في بعض الأحيان...ماذا كنا نعني حقا حين تحدثنا عن المحبة ؟..ربما كان خلف ما يقال من كلانا حاجة ملحة وجدت في تلك الصيغة حلا مناسبا و بالتالي فحل ما حدث بالخارج هو حل داخلي تماما يفضي للإكتفاء الذاتي و الزهد فيما يقدم علي الطاولة و معالجة ثقب الروح بالطريق الأصح و ليس الأريح....ربما كان ما يعنيني هنا هو ما تعلمته أنا..و ما إعتدته..ربما كان لا ملاذ هنالك من الألم في بعض الأحيان...فقط إعتياد الحياة برفقة شبح سخيف يصحو إلي جوارك كل صباح حتي يرتحل..مسربلا بوعود أيام أفضل و سنين تتلاوح بحلاوة الأمل..ربما كان إعتياد الحياة برفقة بعض الإمتعاض لا تبدي ضجرك الشديد منه هو ملكة ما كان علي أن أتقنها..ربما في الإدراك و التبصر تذوق لكل جمال هنالك في الحياة ..قلت ربما كثيرا..لكن ما أرجوه ألا يأول بي الأمر و قد عشت حياة لم تحدث إلا في خيالي..
Comments
Post a Comment