جنني طول البعاد
لم يبدأ هوس محمد منير يصاحبني إلا في مرحلة متأخرة من العمر ، إحتاج الأمر أن أصل لعشرينياتي حتي ألتفت للمطرب النوبي الذي يغني للسهر و الحكاية و الحواديت..ربما بحثت في غمرة إعجابي بصلاح جاهين فعرفت أنه قد غني ( المريلة الكحلي ) بعد وفاة جاهين ، و تكرر البحث مع سماعي لألحان بليغ فإنتبهت لأن اللحن الذي غناه منير له لم يكن للملك في الأصل ( أشكي لمين )..
في أيامي
الأولي كان أبي يجيد إحكام التلاوة و يستمع بإخلاص لكل ما غناه ( حليم ) ،
يضبط إرسال التلفزيون ليدندن معه ( أنا اللي طول عمري بصدق كلام الصبر في
المواويل ) ، يسطر علي أوراق الجرائد جملة ما كتبها محمد حمزة لحليم أو
بيتا من الشعر لفؤاد نجم أو درويش ( فيما بعد سأصير محبا لكليهما ) ، أدركت
مبكرا ما للكلمة من سحر و أثر شفائي قبل أن تكون بوابة لتذوق الجمال..
أنا
إبن فترة الكاسيت و ظللت مخلصا لها حتي وقت قريب ، في مراهقتي كان عمرو
دياب هو نجم الكاسيت بلا منازع ، أميز الصيف من رائحة الجوافة علي شاطيء
المعمورة نهارا و نغمات عمرو دياب في شوارع القرية ليلا..أحببت الجيتار و
حاولت تعلمه ثم إنتهي به الحال في ركن الهوايات المهجورة قبل أن أنصرف
للعود..
مع أواخر العام ٢٠٠٤ كانت الحياة تتبدل ، ينتشر الإنترنت مع بدء
مواقع التواصل علي إستحياء ، غليان في الجامعات تزامن مع تغير الحكومة و
مشاريع التوريث في الداخل ، عمليات إستشهادية مكثفة صاحبت حصار عرفات و
غزو أمريكي للعراق ..كانت البلاد تفور ما بين تحفظ ديني و ثورة سياسية لجيل
أنهكته أسئلة السياسة و الدين التي ستختفي فيما بعد في الأجيال اللاحقة ،
علي التوازي مع ظهور طبقات جديدة للمجتمع و ظهور قنوات للأغاني و إنفتاح
رأسمالي جديد ..في الخلفية كان ثمة حراك كبير تبدأ سيرته في التصاعد ،
جريدة جديدة ( الدستور ) تفتح أبوابها للكتاب الشباب ( بلال فضل و عمر طاهر
و علي سلامة ) و تخصص صفحتين أسبوعيا لباب ضربة شمس ، يتحدث كتابه عن منير
و جاهين و يوسف شاهين و عن متاهات الحياة و الزمن ..في توقيت موازي كانت
أماكن جديدة تفتح أبوابها للفن البديل في الساقية و مسرح الجنينة ، أجيال
تظهر من أغاني تنقل أشعار نجم و فؤاد حداد علي ألسنة نغم مصري و إسكندريلا و
بلاك تيما و وسط البلد..قاهرة ثائرة أو هكذا خيل إلي و أنا أكون الصداقات
الجديدة التي رحبت بكل من هو غريب أو مغترب وسط زحام العاصمة ، يعرف بعضنا
البعض و نكون إفتراضيا ما يشبه المجتمع البديل..
بدأت التنقيب عن كل ما
غناه منير منذ بداياته في ٧٧ ، دندنت للجيرة و العشرة و لأزرار القميص و
المراكبي و حتي حتي في ديل كيفك ، كان الحب الأول منبثقا من تلك المحبة
لمنير ، يحفظ كلانا تاريخه كله فنستأنتس به في تمشياتنا الطويلة علي شاطيء النيل ، يدندن
أحدنا مقطعا ما أن شعرك خيوط قمر المسا فيستكمل الآخر أن طب ليه في ليلك
بتنسي ؟..يطول المسير لساعات الفجر فنتذكر أن ( أمشي في الفجر حافي الرذاذ
يرعش كتافي و قلبي يبقي نبع صافي ) ، نشكو غربة المدينة فندندن ( لما جينا
إلتقينا كل شيء فينا ناسينا ) ..
يخرج ألبوم يونس (طعم البيوت) للنور فنقف جماعة وسط صفوف
حفلة الاوبرا ننتظر ثمرات تعاون منير مع الابنودي ، يخرج للجمهور بعد منتصف
الليل أن ( ليه تسكتي للزمن إتكلمي ) أو ( بنتولد صافيين ) ..
مع قيام
الثورة و لأسباب سياسية كان نجم منير يشحب و يتسلل لسمعي أشعار تحمل طابع
الخذلان ، تغني دينا الوديدي ( تدور و ترجع وجع و إعتكاف ) و تغني مريم
صالح أن ( الصدق سبرتو في إزازة تفتحها يطير ) و أسمع لبلاك تيما ( عرفت
قبل ما تحزن هتدي حضنك لمين و تدي حزنك لمين ؟ ) ..لم أحتاج للكثير من
الوقت لأعرف أن الشاعر واحد ( ميدو زهير ) و لأتفهم ما يكتبه بصفتنا بلديات
عندما يتعلق الأمر للمنطقة النفسية ،أستطيع تخيل أي طريق مر به زهير إلي أن وصل لهنا .. بعد سنوات يرحل زهير عن العالم و
يغلق مسرح الجنينة ابوابه و تتحول الحفلات من طقس محدود الجمهور لزحام من
جمهور آخر..
منذ أشهر قليلة كنت في إحدي حفلات منير بعد أن إنتقلت من
الاوبرا للشواطيء الارستقراطية و ضواحي العاصمة النائية ، بدا متعبا بعد
رحيل رفاق الرحلة و بعد تقدم العمر فكان يجلس محاولا تذكر الكوبليهات ،
يتعامل المحيطون به بصفته الراجل الكبارة و ليس الشاب الذي حرض علي الثورة
ثم إتهمه البعض بخذلانها ، ربما كانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها أن
عمرا قد مر و أن ربما , أقول ربما , سينبغي علي أن أغلق الدائرة عند تلك النقطة..
Comments
Post a Comment