علبة للسجائر و 7 حبات بروزاك

* سبع حبات علي إنتهاء علبة الدواء..

 
أحاول مجددا إختراع وحدة قياس أخري للحياة بخلاف المسافة بعيدا عنك التي أجاهد لكي تصير أكبر كل صباح ; أنا بخير كلما كنت أبعد عن بالي ولا تتوالي زياراتك لي بأحلامي و خيالاتي ..أصحو لألقي السلام علي الأشباح التي تستلقي بجواري ثم أنهض لأعبر ضفاف اليوم إلي الشاطيء الآخر..
 
أكتشف بالمصادفة البحتة أن في رحلتي للهرب قد إختلفت تركيبتي الروحية و صرت أهدأ ، أقل إتخاذا للقرارات الإنفعالية عند قاع أو قمة المنحني النفسي..أتمهل فأترك القلب ليتقلب و أقول لنفسي كم كنا حمقي حين إستسلمنا لتيار المشاعر في ذروته و فراغه ، أقل إهتماما بالصورة التي تنعكس في عيون الناس فأتركها لتحيا حياتها المستقلة و تصل حيث أرادت الحياة ..أكثر تقبلا لتقلبات الأقدار فلا ألعن الحظ بل أقول ربما..ربما أرادت بنا الدنيا درسا ما لم يكن بمقدرونا أن نتبصره و تغييرا لم نكن لنسلكه بدون ذلك الوقع الثقيل علي القلب..
 
تعلمت منذ فترة أن الحياة لا تدور في دوائر للأبد حتي و إن إشتهينا ذلك في لحظات التجلي و النشوة ، تمر بمحاذاة الأمل و الخذلان و اللامبالاة ثم دون سابق إنذار تتغير الخلفية ليتكشف من خلف الغبار عالم آخر ، لأدرك أن في إختلاف الليل و النهار لآية ، و أن الأحلام و البشر و الأحزان و المخاوف ، كلهم موقوتون لأجل ، فيصيب قلبي قبسا من الطمأنينة و القلق فيتأرجح القلب موزعا بينهم .. لا أنشد سوي البصيرة التي تعينني علي إدراك نهاية مرحلة و بدء أخري و الصبر علي كل تعلق أو وحشة لا أملك لردهم سبيلا..
 
نصف الطريق هو الرؤية ، فهم كيف آلت الحياة للوغاريتم تلقائي لا يبتغي نجاته سوي في الصخب و اللذة و الهرب للمسكنات ، هو التوقف و الرجوع للخلف خطوة و إدراك متي أصبنا و متي أسئنا التقدير ..متي تسامحنا مع مراوغة الآخرين فطيبنا بخاطر أنفسنا و سمينا التسامح صبرا..متي إستخدمنا نفس العذر فتعامينا عما سببناه للآخرين من حيرة و إرتباك.. هو ذلك النور بعد طول عتمة الذي يتطلب إعادة ترتيب الحياة بعد ذلك التكشف..
النصف الآخر هو الطريق الغير ممهد الذي ينبغي علينا إجتيازه في ضوء ذلك النور..الخطوات الخائفة و المرتعشة التي تتقدم ثم تعود ثم تجاهد لمواصلة الطريق..هو تطبيق تلك الرؤية بما فيه من تدريب لعضلات نفسية لم تكن موجودة في الأساس..الصبر ثم مزيدا من الصبر علي منعرجات المسار و وحدته ، خلق ذات أخري تراقب تلك القديمة و تحاول إثناءها عن الحماقات المعتادة ، و آيضا تتسامح مع الذلات التي قد يفيض كأس الأمل أو اليأس يوما فننجرف إليها..
 
حبتان علي إنتهاء علبة الدواء..
تمر أيامي سريعة ، ليست هباءا كاملا لكن بوسعي القول أن كثيرا من الماء يجري تحت الجسر..ثمة أحلام قد تحققت و ثمة صحبة لم أسعي لها قد أحاطتني بالدفء و الونس في وحشة الطريق..ثمة نسيان لكثير من الطقوس و الآمال و المحبة و العداوة ، تعود كبريق خافت حين تلهو الذاكرة في أوقات الفراغ.. بالأمس و أنا أقود سيارتي و من نافذتها مررت بالميلاد و الموت و المودة و الأذي الغير مقصود فتساءلت كيف لنا أن نثابر علي رسم تفاصيل ثابتة لحياة لا نقدر علي التحكم بمساراتها بل لا نقدر أن نجيد شد لجام النفس متي أردنا، و قلت لنفسي كم من حكم مسبق قد إرتحت له بينما لا تحدث الحياة هكذا ، لا أحد يهوي الخطأ لكن هي البصيرة و هو الظرف الراهن..
 
حبة واحدة علي إنتهاء علبة الدواء..
تنساب أيامي هادئة ، علي وتيرة متوقعة و بإيقاع ثابت بعد أن قررت أن ألجأ للإختيار الأسلم و ليس الأجمل ، لن أطارد فراشات الأمل في غابات النرجسية و لن أقتل التنين لأحد أو ألعب دور المنقذ مجددا..تعلمت هذا بعد الكثير من الندوب و المسارات التي إنتهت بي لنفس النقطة لكن بميتتات متنوعة ، عشت حيوات كثيرة أفاضت بي هنا و الآن ..فهمت أن علاج الكثير من المتاهات هو ألا أتوقع من البشر و الأشياء فوق ما قد يجودوا به في لحظات الصفا..ميزت المحبة عما عداها و صرت أواجه العطش علي أمل أن ينتهي الفراغ يوما بجميل القدر الذي أمتن له دوما و أدرك حكمته ولو بعد حين ..بمقدوري الآن أن أفهم لم ظننت الحب يوما هو حاجب عن الدنيا و الصداقة و عن رؤية الحياة ، إنتقال من الحياة مرئيا من الكل لنقطة الإختفاء الجزئي و الإمتلاك الحصري المتبادل ..ربما فقط أسأت التسمية كالمعتاد فأطلقت عليه حبا و لم يكن قطعا كذلك .."حاشتنا أغراض الحياة عن النظر " ..بوسعي الآن تذوق الجمال في الناس و في الطريق..في الميزان المطلوب بين إيثار الرحمة و الإعتراض حين تصير الدنيا مطعم سيء الخدمة ، بين الإعتداد بالنفس لسيرها علي الطريق و بين سراب ظن الوصول..بين السلام النفسي و خوض طريق الألم متي توجب ذلك ،فقط أدعو يا نار كوني بردا و سلاما..الآن أمتن للصحبة التي هي ذلك البرد و ذلك السلام وسط عالم غريب الأطوار..
 
إنتهت العلبة و أسال الصيدلي فيخبرني أن الكثير من الدواء قد شح فأفكر أن ربما علي أن أحاور الطبيب أني لم أعد بحاجة إليه الآن..
 
 
 
**
 
 
 
* عودت نفسي منذ فترة علي أن الأرقام الكبيرة يصبح وقعها أخف و التأقلم معها أبسط حين توزع علي عدات أصغر ..
أعامل علب السجائر كما المال ، الخمس الأوائل تنفذ سريعا ، ثمة تهور ما و إستعجال للذة و عدم حسبان للعواقب تتراجع مع الخمس التالية فالتالية ، حتي يحكم الخمس الأخاري التفكير في حسابات الضرورة و إمكانيات التأجيل ، الخمس الأخاري هن الأجمل بطبيعة الحال و الأشياء التي " تصبح أجمل حين تشارف علي الإنتهاء " .. كذلك ( و أعرف المفارقة هنا ) عدات التمرين الكبيرة ، عشرون رقم صعب يمكن تقسيمه في خيالي لأربع خمسات متتالية دون الإخلال بالإيقاع أو سرعة الحركة ، الخمسة رقم معقول ليس كبيرا بما يوحي بمشقة الرحلة ولا صغيرا بحيث ترتبك الحسابات أو يتسلل الملل..
 
اللقاءات الأولي كذلك ، بضع دقائق لتشرب الأجواء ، دقائق أخري لإلقاء مزحة ما أو لإخراج كارت ما من جعبتي قد يرفع أسهمي و إن توقفت من فترة عن الحاجة للإبهار و إستبدلتها بالطمأنينة ، دقائق كثيرة للسماع و التنبؤ بما سيؤول إليه مستقبل العلاقة ، الحميمية المبكرة جرس إنذار و إيحاء بخطر التورط الغير محسوب ، أدرك حينها أني لست مرئيا كما أنا بل بالصورة التي يرغب الطرف الآخر في رسمها ، قارب للنجاة تصادف ظهوره مع حاجة الطرف الآخر للتشبث بأي شيء في خضم أمواج الحياة ، أحاول أن أتفادي تلك الألغام دون أن أتسبب في إرتباك مفاجيء قد ينتهي بالفتاة لمعالجة التقدم غير المحسوب بالتبريرات و الخجل و الإنسحابات التكتيكية .. 
 
ثمة قاعدة قد قررتها مسبقا أن اللطف المبالغ فيه و المثاليات الكاملة شرك خفي يتمترس خلفه الكثير من العدوانية المستترة ، كذا مع التكرار خبرت أن إدعاء الطرف الآخر القوة و العلم ببواطن الأمور كثيرا ما إنتهي به لإنهيار الحواجز سريعا و ظهور الحاجة المبالغ فيها للحنان و الحماية..العالم قاسي و تحكمه مخاوف الوحدة و أطماع البشر ، يقول أفلاطون أن الخير كل الخير في التوازن بين الرياضة ( تهذيب الجسد ليقاوم رغباته و يتحمل مشاق الدنيا ) و بين الموسيقا ( الإلهام و الفنون و النفس الرقيقة بكافة أشكالها ) لكني في المسار ألتقي بحوائط من الوجوه العابسة أحيانا و برمال ناعمة من الأرواح المشوشة فأقول لنفسي ربما كنت في أعين الناس أحد النقيضين..
 
الحياة رحلة طويلة هي الأخري ، لا أقدر علي التأقلم معها كرقم لا أدرك مدته ، كل صباح هو بمثابة محاولة أخري بذاكرة ممحاة لكن بقلب مرهق ، يربكني تعدد ما أفعله و التراب الذي يغشي بعض الطقوس التي إعتدتها في سبيل طقوس أخري جديدة  ، الأحلام و المحبات و وجهات النظر التي تسقط بالتقادم , يجرب البعض كل شيء للهرب من حال لآخر ، طريق محفوف بالمحتالين و المشوشين ، لكني أدركت بعد طول تعثر أن النجاة ليست في الزيادة بل في التخلي عن بعض الأحمال من آن لآخر ; الزهد في بعض العلاقات مختلة التوازن كلما إستطعت سبيلا ، في تقبل الشريط في إنسيابه بلحظات الزخم و الوحدة ، دون أن يدفعني ذلك لإرتكاب ما أندم عليه لاحقا لرتق ذلك الثقب ..
 
البشر موقوتون علي كل حال و تحكم الخيوط بينهم قوانين الإنجذاب و النفور و القلب الذي يتقلب و الكثير من المصادفات ..كم من روح إلتقيتها في الطريق فظننت أنه بقليل من فك سوء التفاهم ( أو هكذا ظننته )  سأكون قد أسست لحياة مشتركة أبدية لكن آلت الأمور للذبول و النسيان ، و كم من شخص أبغضته ثم تسللت المحبة مع فعل إنساني ما إستلفتني فراجعت نفسي و قلت كيف للمحبة و الكراهية أن يتضافرا معا هكذا ؟ ..كم من معرفة إنسانية عميقة كانت لتتأصل لو وقفت اللوغاريتمات في صفي فظهرت تفاصيل حياة أحدهم بشكل أكبر في يوميات التصفح علي شبكات التواصل ؟..
 
علي باب مقام التسليم وقفت و أدركت أن " تعس عبد الصورة " ، و إن الحياة قد تصبح أخف حين لا تؤخذ علي محمل الجد , ربما كانت المزحة هي العدو الأول للمحبة المخادعة و للسياسة المصطنعة لأنها تكشف زيف كلاهما ..ربما كان الجزء الخفي من عدالة الدنيا أن كل صراعاتها و إنجازاتها في النهاية هي مجرد لعبة لا يصنع الكثير من الفارق مكسبها أو خسارتها -جيد إن أجدتها بالطبع لكن ليست هي نهاية العالم إن خسرتها في لفة روليت ..ربما كان ما يعني حقا هو أهم من ذلك بكثير ، هو ذلك اللقاء مع النفس و تلك الرحلة للداخل التي إن صدقت تفضي للطريق إلي الله و تأمل جميل أقداره..
 

Comments

Popular Posts