حقيبة خفيفة تصلح للسفر

 


لعل من أجمل ما تعلمت في السفر هو أن : " دع كل شيء حيث أرادت به الحياة أن يكون "..في النهاية أنت هو أنت ، لا يبدأ تعريفك بما تكتسب منه قوت يومك ولا ينتهي بالندبة التي تركها أحدهم بك و كذلك لا يمر بآرائك في البشر من تحب و من تكره.
.
أقف علي محطة القطار لأحصي ما قد فقدته عن غير قصد ، ما سقط سهوا بغير رجعة فأقول لنفسي : " دع كل شيء حيث أرادت به الحياة أن يكون " ..للرب حكمته ، و للطريق مساره الذي حتي و إن إجتهدت فهو مرهون بحكمة و إيذان أعلي ..في الإلتفات صفعة ، في البكاء علي اللبن المسكوب تحدي لجريان النهر في الحياة ..
 
بالأمس في المقهي صادفت رجلا بدت ملامحه مألوفة..ببعض التمعن تذكرت أنه في زمن ما كان أن أوصي بعدم قبولي بمنصب ما ، تبادلنا نظرات عدم الإرتياح و سرت في الأجواء ثمة توتر ما و عاتبت نفسي علي إخفاقات الماضي ، فيما بعد علي شبكات التواصل رأيت بالصدفة وجه الرجل القديم فأدركت أني أسأت التخمين و أن ألاعيب الذاكرة قد آلت بي لظن أن الرجل في المقهي كان هو بينما لم يكن ، فقلت لنفسي ربما آن أن أزيح ثقل تلك الذكري من كتفي و أن أسلم لمشيئة الأقدار..
 
كذلك في الماضي القريب مررت بأسماء عدة علي ذاكرة الهاتف ، بعضها لم يعد له وجود في حياتي و أبقيت عليه بدافع الأمل الكاذب فقررت في لحظة مسرعة أن أمحي رقمها هي بالذات ، بضع دقائق للتمهل و التأكد من عقلانية القرار كما نصحني طبيب التغذية ، ثم كان أن مضيت  في مسح الرقم و قطع أي ذيول متبقية لحكايات لم تكتمل ، ربما كان علي أن أطلق سراح كل السيناريوهات التي إنتظرت فلم تحدث..
 
كذا الحال عندما ضبطت نفسي مقيدا بالتفكير بنظرات الراحلين ، ماذا سأفعل هنا و الآن كي أخلق شعورا وهميا بالفخر أو بالغيظ إذا رآني أحد الذين غيبتهم أسباب الغياب العديدة و بعضها أبدي كالموت ؟..في التحرر من تلك النظرة المتوهمة خفة لا تنكر..
 
 ألتقي بالبعض أحيانا ففي سياق التعارف نفترش الحديث , محادثة قد تؤول للا شيء إلا بعض الفضفضة علي هامش الحياة , مؤخرا عند لقائي الأول مع غريبة عرفتها صدفة , تسرب السرور لقلبي حين فاجئتني نفسي بأنها ( للمرة الأولي ) لم يتسلل لحديثي الأول  ذكري أي ندبة سابقة , فعرفت بأني قد برئت من ثقل الحكاية و أني لم أعد معرفا بها مجددا ، لم يعد أي جرح قديم جزء من تكويني و إن بقيت الذكري و بعض الشجن الخفيف كنسمة صيفية..
 
كذلك صرت حين أطالع ما كان يثير غضبي في السابق فكنت أنتفض حماسة للدفاع أو للهجوم ظنا مني بأني مندوب العناية الإلهية لتصحيح صورة ما عما أحب أو أكره من معتقدات و أصنام  ( حتي و إن كانت صورتي هي ذلك الصنم ) ..تخففت هنا من إلتصاق أي ثقل بي سواي , لتحيا كل صورة حياتها المستقلة و ليمضي كل شيء حيث أرادت به الأقدار , حتي الصور الخاطئة أو التي أظن بها الخطأ..تعلمت من الدنيا ألا ثابت هنالك ولا نصيحة معلبة صالحة للكل ، البعض يبقي حيث ينبغي به المغادرة و البعض يرحل بينما كان الصبر هو طريقه الأجمل في النهاية ..
 
هل صرت مستسلما للدنيا ؟ ثمة خيط رفيع بين التسليم والتواكل قوامه الب** علي النفس كلما آثرت الطريق الأكثر بريقا و إمتاعا علي الطريق الأصح ، أو كلما إرتبكت في تعريف السلام النفسي فأقرنته بالهرب من الألم الضروري و الحتمي ..كما يقولون في الإختيار إختبار ، ثمة حيرة ما تترسب فيما سيبقي علي قيد الحياة من أحلام و طقوس ، لكل ما أختاره ثمنا أدفعه من أحلام و طقوس أخري فعلمت أن " يا تجود بده يا قليي يا بده تجود.".
في النهاية مررت بالكثير من الحيوات و من البشر و من الأفكار فكان أن يذهب الزبد جفاءا و كان أن بقي ما كان مكتوبا له أن يبقي أنيسا و دليلا علي الطريق ..الكثير من الأحلام قد فاضت كأس يأسي منها ثم كان الأمر الإلهي أن " سنعيدها سيرتها الأولي"  فقلت إصبر و إبصر و إجتهد و إترك ضوء الطريق لرب الطريق..
 
فقط كما قلت في المبتدأ ، أدع كل شيء حيثما أرادت به الحياة أن يكون ، أسعي لأن يقتصر تعريف الذات علي الذات و لا شيء سواها..

Comments

Popular Posts