هكذا تحدثت لويز
قالت لي لويز ذات يوم و نحن نعبر الجسر الصغير فوق نهر غرناطة :" إذا سنحت لك الظروف لترد الضربة لخصمك فإفعل لكن لا تمنحه الهزيمة الكاملة ..ضربة تصيبه لكن لا تنهيه للأبد "..سألتها إن كان هذا من باب النبل أو " يا بخت اللي بات مظلوم " فإبتسمت .." ليس هذا فقط ، هناك نقطة ما ..نقطة بعدها تتحول الأمور للجنون ، للخروج من حيز السجال لمساحات محاولات الأذي المزمن..لعنة تحرص بين الحين و الآخر أن تطمئن إنها مطبقة بإحكام علي الخصم ، بئر ألقيته بداخله و تعود كل فترة لتتأكد أنه ما زال بالداخل..دعك من أن الحياة دوارة و لكل صعود أفول و العكس ، بعض المعارك كما بعض الأحلام ، تعيق الحياة "..قلت لنفسي هي تلك التيمة الأبدية ، طرف يحتفل بإنتصاره و آخر يلعق جراحه و يدعي نبله في المعركة ، طرف يدين الآثام بعنف زائد و طرف يرتكبها و يدعي الوضوح و الصدق وسط زحام الأقنعة..
" و ماذا عن الغضب يا لويز ؟ ماذا عن زياراته و ثقله و تملكه للحاضر أحيانا بصورته المباشرة أو صوره الأكثر إرتباكا كالمحبة مثلا ؟ "
قالت : خير الغضب هو إدعاء الغضب ..أن تتحكم بوتيرته و إيقاعه لا أن يتملكك هو فيدفعك لما تندم عليه لاحقا..أن تسري حياتك كالنهر فلا يئول حجرا ألقاه أحدهم فيها أن يصيبها بالتشوش و الدوائر المزمنة ..نقف في المنتصف فلا ينتهي بنا للشعور بغصة في الحلق يصبح غاية آمالنا فيها الوقوف عند النقطة صفر ، نقطة الرضا ، ولا أن نحمل السخط علي أكتافنا و نسير به لنبحث عمن نلقيه عليه في الطريق..
قلت : أشعر آحيانا و كأني قد قطعت أميالا ثم ألتفت فأجد أني لبثت يوما أو بعض يوم ، للوصول ينبغي المغادرة علي الأقل..
قالت : و من تحدث عن الوصول ؟..علي الطريق هذا هو المهم ، دعك من أساطير التحكم و المعرفة المسبقة..إترك خطاك للطريق ، قد تقف عند نقطة تري عندها أن الجبل قد تشابه علينا و أنا ها هنا قاعدون ، في المرة الأولي قد وصلت بدافع الصدفة ، في الثانية أنت هنا بدافع اليقين..يسخر البعض من حكمة " الكنز في الرحلة " لكن هل فهمت معناها ؟..لا محطات هنالك ولا " مايلستونز " تتوقف عندها للإحتفال ، أنت علي الطريق تصارع ضدك فتغلبه مرات و يهزمك مرات ، الإيمان يغالب الكفر و الشجاعة تغالب المخاوف و التسليم يغالب الخوف من الألم ، معاشرتك للهزيمة مرة هي ما يحدد مصيرك إن كنت ستنجرف للأسفل بفعل خروج السيناريو عن المتوقع أو تقبلك لبشريتك و لملمة الأمور سريعا و معاودة الصعود..
- و الرفقة يا لويز ؟ الرفقة التي تسطع كنجم في ليلة غاب فيها القمر ثم تغيب كسراب دون أن نشبع منها تمام الشبع ؟ و الأحلام التي آنسناها ثم غربت كشمس الشتاء ؟ هل هناك ما هو أقسي من سحق البراءة في هذة الدنيا ؟ الزمن الذي يمضي سريعا كحجر سقط في نهر ؟
- هي الدنيا تخاطبك فخاطبها ، كدرويش يتخلص من كل ما يعوقه عن البصيرة ، هل ما تري عيناك هو الحقيقة ؟ العكس علي الأرجح ، هي الفطنة لكي تعرف لتلزم .. الحياة في صورتها الأساسية بسيطة لا متطلبات كثيرة هنالك ، لكنها الأطماع و المسكنات ..
- و هل بوسع أحد أن يحيا دون مسكنات تخفف من أثر الدنيا بين الحين و الآخر ؟
- :حين تبني كثيرا و تتجاهل الأساسيات فمن الأفضل أن تهدم و ليس أن تبني المزيد"..أتذكر تلك الجملة من الفيلم الإيطالي لفيلليني علي الأرجح ؟ ..تلك اللحظة التي تدرك فيها أنك علي متن قطار مسرع دون أن تدري و أن نجاتك الوحيدة هي في القفز و تحمل عاقبة ذلك في سبيل اللحاق بما تبقي مما تغافلت عنه من أساسيات..الصورة واضحة ولا يشوشها سوي تلك الأشباح التي هي خصم ضروري و حتمي ينبغي تجاوزه في الرحلة.. بقدر صبرك علي التشويش بقدر ثباتك علي الطريق..
نقترب من مقهي أندلسي صغير علي قمة هضبة تطل علي قصر الحمراء بحدائقه الزكية الرائحة فنجلس لنرتاح قليلا..أخبرها أن الموسيقي في الخلفية هي لبليغ..ألخص لها في جمل سريعة كيف آلت قصته لخيبة الأمل و أعزز الحكاية بقصة زياد الرحباني..بقدر العشم يأتي الخذلان يا لويز فإصبر و تدبر..
- الصبا يا لويز هو أكثر المقامات الشرقية حزنا ..هو ترنيمة البكاء علي ما حدث و ما لم يحدث..
تبتسم لويز : " حين تعرف أنك لا تملك المال الكافي فلا تضيع الكثير من الوقت في التجول لقياس الثياب..لا تبتغي الوحدة صديقا ثم في نزوة سريعة الزوال تشارك أحدهم تلك الوحدة ثم تعود و تخبره أنك جزيرة منعزلة "
- ربما..الوحدة ليست بذلك السوء لكن تعرفين.. كيف لعطشان أن يقاوم أمل الإرتواء ؟..لا تحدث الأمور هكذا..لكل بداية دافع و ظروف تحيط بها ، و بمجرد أن بدأتي يتدفق المسار بالدفع الذاتي..
- ربما لهذا أكره الحماسة المبالغ فيها ، التحليق فوق اللحظة بالتفكير في المستقبل .. الحزن أحيانا خير مصحح للطريق..
- هذا حقيقي..كل نقلة في حياتي تكاد تكون نبعت من منطقة إجبارية لذلك الحزن..
تضحك لويز..عندما تسوء الأمور فلا تبقي كثيرا في مركب غارقة ..إفعل كما سنفعل الآن بعد أن إزدحم المكان و سنغادره لنتجول قبل الغروب..
تحكم ربط الكوفية و هي تسأل..حدثتني عن الصبا..إحكي لي عن مقام راحة الأرواح ؟
Comments
Post a Comment